شفاء قبل الشعر وبعده: عن ديوان سرّ الشفاء من الفرحْ [1/2]

Christos Eliades

هذا شاعر يخبّئ قلبه بفمه، وهذا شعر نائح وصادح بما مضى وما سيأتي في تتالي فصول أربعة حبلى باحتمالات لا تيأس لعبتها. انتهى عبد الرحيم الشيخ من كتابة رابع دواوينه 'سرّ الشّفاء من الفرح'، فيشاركنا عمق جماله بلغة تدهش.

صدر الديوان عن الأهليّة للنشر والتوزيع مطلع أيلول 2017، وغلافه من تصميم الشاعر زهير أبو شايب، وتخطيطه من إبداع الخطّاط ساهر الكعبي. وقد سبق للشيخ أن نشر ثلاثة داوين: 'دواليب الرماد' (1998) (بالاشتراك مع أشرف الزغل)؛ 'أشياء المدينة' (2002)؛ 'حكايا راحلة' (2009).

تعقيب على الصرخة

الشعر قول قلبٍ مصفّى لا يحتمل الادّعاء والمجاملة ما لم تقده الموهبة والصنعة الحاذقة القادرة على تحويل القول المجرّد إلى كينونة تحاور القارئ ويحاورها؛ يد تربّت، وكتف تتّكئ وتعين، وروح تخلع أو تجبر. وأعذب الشعر ليس أكذبه، كما تدّعي مقولة نقديّة عربيّة قديمة، لأنّه بفقدانه صدق القول يفقد قدرته الحادّة على استيطان ذهن وشعور القارئ، حتّى وإن بدا جميلًا أو ذا معنى. وشعر عبد الرحيم الشيخ ينطبق عليه ما قاله نيكوس كازانتزاكيس في سيرته 'تقرير إلى غريكو': '... فروحي كلّها صرخة. وأعمالي كلّها تعقيب على هذه الصرخة'.

تعكس قدرة الشعر البليغة على التمرئي في ذهن وشعور القارئ، مقدرة حاذقة، وبصيرة متأنّية وشغوفة في الصنعة الشعريّة، وهي في الديوان واضحة ومبتكرة، فـ 'الشاعر ليس استيرادًا'، وفق مظفّر النوّاب في إحدى مسرحيّاته، وذاك يعني أنّ الشعر ليس مهنة يمتهنها أيًّا كان، بل إنّه صنعة، والصنعة الشعريّة تحتاج شعراء متمرّسين بالشعر وخلقه، وفيها ألجأ إلى قولين لتوضيحها في الديوان، أحدهما ما أورده أدونيس في ردّه إيقاعات اللغة وأجراس حروفها وتآليفها معًا إلى طاقة المؤلّف الخلّاقة، والثانية أوردها أبو حيّان التوحيديّ في 'الإمتاعة والمؤانسة' على لسان أعرابيّ وجّهها لأحد النحاة متعجّبًا من لغته: 'أراكم تتكلّمون بكلامنا، في كلامنا، بما ليس من كلامنا'. وهذا ما نجده تقرأه في 'سرّ الشفاء من الفرح'، موزّعًا هندسيًّا على 31 قصيدة، مقسّمة بدورها إلى أربعة مدارات السنة: صيفها، وخريفها، وشتائها، وربيعها، أمّا عناوينها: 'فصل التهيّؤ للربيع'؛ 'فصل انتظار الصيف'؛ 'فصل الذهاب إلى الخريف'؛ 'فصل الحنين إلى الشتاء'. وما مناخ السنة كما أجده إلّا أحد الكنايات عن مناخ الروح وتقلّباته. وسرّ الديوان وعنوانه مكنّى بمعنى مزدوج، وكما تحلو قراءته، إمّا قراءة تصف شفاءً (من) الفرح، أو قراءة تتضرّع شفاءً موعودًا آت (له).

تمضي قراءتي في الديوان محاولةً محاورة النصّ والاستماع إليه بحكمة، لو استطعتها، ومحاولة كذلك اكتشاف هندسته البديعة التي صمتت بها القصائد، وتفسيرها كما أراها.

هندسة

يقع الديوان في 100 صفحة من القطع المتوسّط ذات الشكل الأفقيّ، وهذه الهندسة الأفقيّة يعتمدها الشيخ في تصميم أعماله الشعريّة، ربّما لتتلاءم مع هندسة قصائده وتصاميمها التي يعتني بها أيّما عناية، ليس من باب الشكل العابر، إنّما لأنّ شكل القصيدة عنده مدروس بدقّة وعناية تتلاءم مع مضمونها من دون فصل بيّن بينهما. فإن كانت القصيدة المضمون، فشكل القصيدة أيضًا، وحرفيّته، قصيدة فوق القصيدة. ربّما يدلّ شكل الديوان الأفقيّ على مقاصد أخرى، والمعنى، كما قال أحد نقّاد العربيّة، بتحوير بسيط: المعنى في قلب الشاعر.

من الجماليّات الإضافيّة في الديوان لوحة الغلاف الذكيّة والمحزنة للفنّان العراقيّ ضياء العزّاوي، والتي تصوّر عاشقين كما يبدو، يلفّ ملامحهما حزن وفجيعة، تدلّ على عناق اتّكاءتهما الغارقة في تنهيدة اللونين: الأزرق والنهديّ. ويمكن أن تُفسَّر اللوحة بأنّ هذا الثنائيّ دليل على 'الخاسر والخسارة' التي يتكرّر موضوعها في الديوان. وإن يتّسع التأويل، فربّما في اللوحة قراءة حول ' التساقط' الذي يرد ضمن موضوعات الديوان، والفقدان المستمرّ واللامتناهي لأشياء الطبيعة في مسيرة الحياة والكون.

يبتدئ الديوان بقصيدة 'رباعيّة'، وهي مقدّمة للفصول جميعها وناظمة سردها، كما أنّها الوحيدة الخارجة من تصنيف الفصول، وتدلّ أربعة مقاطعها على الفصول الأربعة اللاحقة؛ رباعيّة للـ 'حين'، و'الحيل'، و'الحلم' و'الحيرة'، وفي منتصفها 'قلب مؤسّى، وغياب: 'وحيلة القلب المؤسّى توقه للركض حرًّا عند يد الغريبة'.

وينتهي الديوان بقصيدة 'في وداع لوكريتيوس'، وفيها تتداعى الأشياء والذرّات، و'الخريف يسقط من حسابات الفصول كأنه شبحٌ يُقال له الخريف'. ولوكريتيوس شاعر وفيلسوف رومانيّ عليل القلب، حبًّا، وهو صاحب القصيدة اليتيمة بعنوان 'في طبيعة الأشياء' (De rerum natura)، والتي ألهمت الفنّان بوتيجلي ليرسم أحد روائعه الفنّيّة، 'أمثولة الربيع'، عام 1582 ق. م.

فصول أربعة

يوضح تقسيم القصائد تقسيمين اثنين؛ الأوّل تقسيم حسب موضوعات القصائد، والثاني تقسيم زمنيّ يتبع الزمن الفعليّ لكتابتها. وقد اختار الشيخ أن يقسّم قصائد الديوان حسب الموضوعات في فصلين: التهيّؤ للربيع، وانتظار الصيف. وأن يقسمها زمنيًّا وموضوعيًّا في فصلين: الذهاب إلى الخريف، والحنين إلى الشتاء.

يحتوي ربيع الديوان على سبع قصائد، ستّ منها كتبت على فترات زمنيّة مختلفة في مدينة نيويورك، خلال عام 2016، وهي: 'ذهاب'؛ 'عبور'؛ 'حياد'؛ 'أقداس'؛ 'إياب'؛ '15 في واحد'، وواحدة فقط لم تكتب هناك، هي 'ضغط'. وفصل الصيف فيه يشتمل على: 'تنويحة؛ 'انتباهات الأربعين'؛ 'فروق لغويّة'؛ 'حلول مشرقيّة'؛ 'توازن'؛ 'تنويحة'.  وفصل الخريف يضمّ ثماني قصائد، أذكر بعضها: 'تعويذة'؛ 'اعتذار'؛ 'فزّاعة'؛ 'توأم النرد'. أمّا الشتاء ففيه: 'في الخريف'؛ 'موجز بلا أخبار'؛ 'أعراس'؛ 'حداد'؛ 'فلاحة'... وغيرها.

ليس يُقرؤ هكذا شعر قراءة سريعة، فالموسيقى فيه تغري بالدفق السلس وجمال اللغة، لذا يجدر التوقّف مطوّلًا أمامه وتمعّنه؛ فلا فرق جليًّا هنا بين التاريخ الشخصيّ والتاريخ الجماليّ العامّ، إذ يتّحد كلا التاريخين معًا، وفيهما من الخلفيّات المعرفيّة ما يغني النصّ ويميّزه، ويغري باكتشافه.

لا يوجد نصّ خارج القصائد يمكنه أن يقول أكثر ممّا تنطوي عليه من معرفة وقول، تُبذل فيهما المحاولة فهمًا وتفسيرًا. وإن فات هذه القراءة المتواضعة جزء منه أو كلّه، فما هو إلا قصور القراءة عن إدراك ما تبوحه الكتابة في جمال لغة الشاعر.

الحبيبة لا تُعرّف

أجزم بالقول إنّه لم يكتب شعرًا لامرأة أجمل ممّا ورد في قصيدة 'حلول مشرقيّة'، فبمثل هذا تكون القصائد للمشرقيّة التي حلّت وأقامت:

'المشرقيّةُ، التي زارتني الليلة الفائتةَ، لا تُعرّف بالكلامِ، ولا تُقالْ

...هي شرق فكرتِها، ومغرب رغبتي، وجنوب ذهنٍ - مقصلة، وشمال قلبٍ - بوصلة

تأتي زرافاتٍ نساءٌ، وحدَها، جمعٌ... وترحل مفردة!'

وللقصيدة هذه ثقل جماليّ وروحيّ في الديوان، فللمشرقيّة ما لم يبح به الشاعر الحبيب، إذ لا تُعرّف الحبيبة بما يُعرّف ويُتداول من كلام يقوله العاشقون للعاشقات؛ فلا يطوق الحبيبة 'طوق الحمامة' عند ابن حزم ولا ينصفها قوله، وهو من أهمّ الكتب التي درست موضوع الحبّ ومظاهره وآثاره، فلها، وحدها، التفات القلب دومًا ولهفته المؤبّدة. وإذ تناجي القصيدة صاحبتها الراحلة وذكراها الباقية، وتعدها بخمر الروح المسجّى، كما هي... تمنحها بوصلة القلب التي لا تشير إلّا إليها في 'جهاتها الستّ'. و لو لم يكن في القصيدة إلّا هذا المقطع المذكور آنفًا، لاكتفت القصيدة به وما نقصت عذوبتها.

تتكوّن القصيدة من خمسة مقاطع، في كلّ مقطع ثلاثة أسطر منظّمة ومهندسة قصدًا، كما صمّم الشيخ بقيّة قصائد الديوان. فكلّ حركة، وترتيب، وبناء، وتوزيع، حركة مدروسة من الشاعر ولها أثرها في قراءة النصّ الشعريّ القراءة الدقيقة التي قصدها، أو ربّما تتجاوز قصده، كما في 'توأم النرد' و'أعراس'.

حيّ بن يقظان

وفي قلب هذا التصميم الهندسيّ للقصائد تأتي قصيدة 'توازن'، التي يبنيها الشيخ محاورةً لأيّام سبعة أسّست عميقًا للمعرفة الإنسانية، وهي الأيّام السبعة التي قضاها حيّ بن يقظان باحثًا عن أسرار الوجود والحياة، وفلسفتهما في الخلق والكائنات.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه القصّة أُعيدت كتابتها في التراث العربيّ القديم أربع مرّات: رواية ابن سينا؛ رواية ابن شهاب السهرورديّ؛ رواية ابن طفيل؛ رواية ابن النفيس. وقد ابتدأت هذه المراحل، كما يصف ابن طفيل، بقذف (حيّ) في اليمّ بعد أن خشيت أمّه بطش أخيها لو علم بحملها من قريب لها:

'وهو الصغيرُ، ابن الغزالةِ، خُشْفُها، وربيبُها، وحبيبُها،

وابن القريبة والقريبِ، إذ استعاذا بالصّغير،/

الأمس، من جور المليك وملكِه!'

وتستكمل القصيدة سرد حكاية الأمّ ووليدها، وهي تتقارب في حكايتها ووصفها مع حكاية الأمّ مريم وابنها الناصريّ النبيّ.

'لكنّه الحيّ الصّغيرُ،/

الأمس حطّ على الجزيرة واستراح'

وتمضي الحكاية بتبنّيه من الأمّ الظبية البديلة، ورعايته سنوات سبع انتهت بمحاولته إنقاذ الظبية واكتشافه أسرار الحياة في جسدها العليل وقلبها المحتضر، ما قاده إلى الوقوف على أسرار الروح والجسد في الكائن الحيّ من خلال تجربته وحواسّه، وهو يسأل سؤاله المعرفيّ الكبير:                   

'كيف مات القلبْ؟

كمدًا؟ خسارة عاشقٍ؟ كرهًا لصوت النبضِ؟ خشيةَ فاجعة؟'

وهو السؤال الذي يقود إلى الكثير ممّا يمكن التنبّؤ به وتفسيره، وقد يكون سؤالًا مركزيًّا في النقاش الفلسفيّ للميتافيزيقيا وماهيّة الوجود، وفيها مكمن الحياة وتفسيراتها.

لا تتوقّف القصيدة عند كونها نوعًا من أنواع السرديّة الشعريّة، بل تتخطّاها إلى الأليغوريا (allégorie)، وهو أسلوب نقديّ يتخطّى النصّ المباشر إلى الدلالات الخفيّة وراءه. ولا بدّ من الإشارة إلى هندسة القصيدة الدقيقة والمحترفة التي بناها الشيخ بحرفيّة ومهارة، إذ يندمج شكلها مع مضمونها مع المراحل السبعة المؤسّسة للمعرفة الإنسانيّة، فتتكوّن القصيدة من سبعة مقاطع، في كلّ مقطع سبعة أسطر. هذا التصميم الدقيق للقصيدة لا ينمّ إلّا عن صنعة شعريّة رصينة ومتمكّنة ممّا تقوله، وواثقة بما تعطيه. ومن ذلك أنّ قصّة حيّ بن يقظان أحد التفسيرات المرتبطة بالقصيدة، لكنّها ليست التفسير الوحيد. تتوارى خلف قصيدة 'توازن' محاولات تفسيريّة أخرى، فالوليد هنا ويمّه السائر على هداه يذكّران بقصّة موسى وأمّه في التوراة والقرآن، وخوفها من فرعون مصر لئلّا يذبح وليدها، فأرسلته في البحر اتقاءً لشرّه. ومثلما يصف القرآن قلبها بعد ذلك: {فأصبح فؤاد أمّ موسى فارغًا} (القصص: 10)، فإنّ الفؤادين في القصّتين في كلا المرجعين متعبان، وثالثهما فؤاد القصيدة وتوازنه.

'ومَنِ الحكيمُ؟ وأينهُ؟ أَوَعِنْدَهُ قمر وليلْ؟ أَوَعِنْدَهُ سيف وخيلْ؟

ليقول للشمس الحَرون توقّفي، أو أسعفي هذا الصغيرَ/

الأمس، وارمي روحه بالدفءِ، يومًا، واكتفي!'

ومن قصائد الديوان المرتبطة بقصيدة 'توازن'، كما أظنّ، قصيدة 'تنويحة'، وهي تنويحة للغياب وآلامه المفجعة، غياب للأمّ، للظبية الحقيقيّة ووليدها، والشاعر يرثيها:

'...وِاليُومْ جَفِّ الندى وْبِعْدو اللّي كانوا قْرابْ، وعَ الحيِّ طافوا العِدا، وعَ الدار هَدّا غْرابْ'.

هاتان القصيدتان مرتبطتان ببعضهما كثيرًا، بقصد أو بغيره، فقصيدة توازن تتنبّأ، بعمق العرّاف، بالغياب المتحقّق لاحقًا في القصيدة الأخرى، والغياب القسريّ فيها للأمّ. تتوالى هاتان القصيدتان في الديوان، لكن في زمن الكتابة الفعليّ تفصل بينهما قصيدتان، هما 'حياد'، و'15 في 1'، وذلك واضح في تاريخ ومكان كتابة القصائد المدوّن أسفل كلّ قصيدة، وهما من القصائد 'الفدائيّة' ذات الحمولة السياسيّة في الديوان، إضافة إلى قصيدتي 'أقداس' و'عبور'. وهذه القصائد الأربع واردة في فصل الربيع، فـ 'نيسان أقسى الفصول'، كما كتب ت. س إليوت في قصيدته 'أرض اليباب'.

وقصيدة 'تنويحة' هي الوحيدة في الديوان المكتوبة بالعامّيّة، وفيها يظهر جليًّا صدق الرؤى والكشف عنها. وقد استطاع الشيخ بدراية في صناعة الشعر وفنّه، أن يحوّل الكتابة من فعل ميكانيكيّ جامد إلى لغة حيّة تتنفّس، وتشعر، وتتفاجأ، وتتنبّأ، وتحزن، وتنقل كلّ هذا، بإيقاع وذوق، إلى القراءة التي تستمع بحذر وهدوء لصوت القصيدة وما تقول. فالشعر بعامّة غير مفصول عن ذات الشاعر وشعوره، وإن انفصل فلا يبقى شعرًا، إذ يتحوّل حينها إلى مشاعر جافّة تميت الكلام قبل التلفّظ به، وإلى أداة تتسوّل مجاملات بالشعر وتدّعي المعرفة فيه.

الخسارة

تغلب الخسارة على مضمون الديوان وتصبح فيه إشارة إلى الحياة وصفة من صفاتها، فقصيدة 'أنا أخسر إذن أنا موجود'، والمهداة إلى البروفيسور جيل النجّار في جامعة كولومبيا بنيويورك، وهو الصاحب المقصود في القصيدة، ترتكز فكرتها حول الخسارة التي تنطوي عليها الحياة وموجوداتها. والخسارة والحياة كلاهما أنثى، تتلازمان معًا من جهة وتبدعان في اقتناص القلوب من جهة أخرى، لكنّ القلب قد ينجو من كلّ هذا:

'فالخسارة مرآة الوجودِ، يا صاحبي، وفي أحداقها يتمارى الخاسرونْ...

'والقلب؟'... ينجو!'

 ونستشفّ حمولة فلسفيّة وفكريّة عميقة خلف القصيدة في تحليل الذات وأنواتها المتعدّدة، حدّ أنّ القلب يصبح واحدًا مستقلًّا عن صاحبه: 'كن صفحة الماءِ، أيّها القلبُ، لا رقعة الحبر'.

كما وتغلب على الديوان الأفكار الفلسفيّة العميقة والميتافيزيقيّة حول أسرار الحياة، وفلسفتها، والرؤى، والتأويل، والغياب، والأيّام 'سيّدة الخسارة'، ونبل المشاعر، وعجز الوفاء، وفيض القلوب، وشحّها ونضوبها، إذ تجفّ القلوب كما تجفّ أوراق الخريف وتعلن جنائزها، وتتناوب المشاعر وتتبدّل كما تتناوب الفصول على السنة.

والخسارة نفسها هي التي قادت حيّ بن يقظان إلى اكتشافه أسرار الحياة، وإلى تكوين معرفته حول الكون وكائناته، فتكون الحياة توأمًا للخسارة، وهما توأمان لا ينفصلان ولا يلتقيان. والخسارة هي التجربة التي تقود إلى اكتشاف الحياة وناسها، والعكس صحيح كذلك الأمر. 

وتكون الحياة رمية نرد، وعلى أيّ وجه يكونه الحظّ يكون النصيب منها والخسارة. ففي قصيدة 'انتباهات الأربعين' يقول الشيخ: 'لو كانَ للحظّ قلبْ، لقدّم النرد استقالته المجيدةَ... واستراحْ!'، وهي انتباهات للحياة ولغيابها، ولأشيائهما الكثيرة معًا. ويقول أيضًا:

'في الأربعينْ

لا ترحم الأيّامُ، سيّدة الخسارةِ، رغبتي في الإنحسارِ، تواضعي...

بلْ تدّعي فوزي الفريد بنَوْطِ 'أكبر خاسرٍ' (دون احتفالٍ باذخٍ، أو أغنياتٍ من 'مقام الخسروانْ':

'خاسرٌ وخسارةٌ يتناوبان الإسم تذكيرًا وتأنيثًا... فتختلط النعوت بلا اكتمال التاءِ، بدرًا، في مُحاق الخاءْ'.

ولا اكتمال للخسارة، ولا اكتمال للربح أيضًا، في مطحنة الحياة وتذريتها لكلّ ما يسقط فيها. والشيخ يرسم صورة لأحزان الحياة وفرحها المنقوص بمهارة الخبير البصير:

'أُفرح الحزن بالكتابة عنه: لا نبيّ ولا غبيَّ

لكنّني (هذا المفرٍّحَ، والذي لاكته أضراس السنون)

أزجي التحيّة للفرحْ، وأعيده للأغنياتِ، مُنَهْنَهًا من حزنه، فردًا أحد!'

الكتابة فعل إحياء للمكتوب عنه، فهي فعل خلق وإماتة تمنح الحياة للمكتوب عنه أو تسلبها، على حدّ سواء. وأن يكتب الشاعر أحزانه أو أفراحه قد يكون للنتيجة حدّان: تسكين الشعور أو تحفيزه، وهذا ليس شأنًا للشاعر وحده، بل إنّ القارئ معه شريكٌ ما استطاع فهم القراءة والكشف عنها. وفي كلا الحالتين، يكون القول للشعر وحده في قصيدة شفاء، ومنها استمدّ عنوان الديوان كاملًا، يبتدئ الشيخ قصيدته باستخدامه حرف 'لو'، وهو في النحو 'حرف امتناع لامتناع'، ويجمع بين جملتين، تنتفي الثانية بسبب انتفاء الأولى، إذ يقول:

'لوْ يستطعنَ

قراءة الفصحى

فراشات الحديقةِ،

لو رأينَ، ولو سمعنَ...

وهبتهنّ كتاب عمري:

'سرّ الشّفاء من الفرح'!

والقول هنا بطيء ومتأنٍّ، تلفظ الجمل فيه بتؤدة، ربّما كتنهيدة تعبة، وربّما كقول يراد به التوضيح. وما يشير إلى هذه القراءة، توزيع علامات الترقيم على النصّ، وهي أساس في هندسة القصيدة وتصميمها عند الشيخ، وسرّ من أسرار القراءة المتينة لشعره، الباحثة دومًا عن أسرار الكتابة.

رسالة وأحجية

كتب نقّاد العربيّة الأقدمون والمحدثون كثيرًا عن تذوّق النصّ الأدبيّ، مهما اختلفت أساليب كتابته، وأحسب أنّ تذوّق النصّ الأدبيّ يجب أن ينطلق من إحياء النصّ أوّلًا، وعَدّه كائنًا حيًّا ناطقًا. وما محاولات الكتابة عنه إلّا محاولة لفهم منطقه وتأويل ما يقول بمرافقته والاتّكاء على كتفه. 

وفي 'سرّ الشفاء من الفرح' ما يغري بالكشف والبحث والمعرفة، كمحاولات حيّ بن يقظان في اكتشافه لمعرفة سرّ الحرارة والحركة في قلب الظبية الأمّ، التي قادته إلى تأسيس معرفته حول ما كان يخفى عليه من خبايا وأسرار هذا العالم. ومحاولة اكتشاف هذا الديوان فيها تعب شغوف، وحيرة، واكتشاف مدهش، وفلسفة عميقة عن موجودات الحياة؛ فعند الشيخ يكون الشعر رسالة ولغزًا وأحجية، وهذا ما يزيد الشغف بتأمل جماله وموسيقى لغته وسحرها، شكلًا ومضمونًا.

 وإن كان ما أكتبه لا يعبّر سوى عن جزء بسيط ممّا أريد قوله، لكنّ الشعر يقول أكثر... فاستمعوا له استماع الحكيم إلى دقّات القلب، وستجدون ما يسرّكم. الشفاء دومًا للقلوب التي تسعد، وللغة التي تسحر، لا شفاء إلّا بها وفيها.

 

قسم الحاجّ

 

طالبة دكتوراه في برنامج العلوم الاجتماعيّة بجامعة بيرزيت، وقد أنهت درجة الماجستير في برنامج الدراسات العربيّة المعاصرة من الجامعه ذاتها. تهتمّ بالسياقات الثقافيّة والسياسيّة في المجتمعات المُسْتَعمَرة وما بعد الاستعماريّة، والمجتمع الفلسطينيّ بخاصّة.